الأنوار تتلألأ من حوله تذكره بروحها التى ملأت حياته بالحنان والجمال .. يري الناس من حوله كعرائس "الماريونت " يقتربون منه ليعزونه ويربتون علي كتفه .. يرددون جمله واحدة وكأنهم شخص واحد"شد حيلك .. البقاء لله"
لا يرد إلا بإيماءة حزن .. فهو لا يشعر بهم رغم الوخزات التى يتلقاها منهم لتنبيهه بوجودهم .. عاش مع شريط الذكريات في الصوان الكبير الذي شيده لها والذي جعل الشارع وكأن الشمس لم تغرب عنه برغم سواد الليل وعتمة روحه من بعدها.. تذكر حضنها الدافئ حين كان يبكى فيه خيانة هذه وتلك له.. كان يستغرب حاله ويسأله نفسه: كيف تبحث عن الحب بين يدى هذه وتلك وأنت تمتلك أدفء وأجمل سيده في الكون.. ولكنه كان يتمادى في غيه ولا يجد لنفسه إجابة .. كان يظن أنها لا تعرف ماذا يخبئ في قلبه وهي تحتضنه وتخفف عنه وتغفر له دون ان تواجهه.. يبكيها وكأنه لم يبكي من قبل .. فقد أتمت رسالتها وتركته بهدوء ..
لقد تنازل في أيامها الأخيرة عن كل ما كان يظن أنها لذة الحياة .. وعاد إليها ليعطيها وحدها كل الحب ولكنها رفضت أن تمنحه شرف الرضا عن نفسه وتركته يعانى ألم زلاته وسقطاته في حياتها!!
أصبحت الدنيا دائرة من الفراغ الكبير بعدها ..
قرر أن يعيش حياة ولده وابنته التى تركتهم له في مرحلة الإقبال علي بناء حياة جديدة لهما..
هو يتوجس من اليوم الذي سينتقل فيه كل منهما إلي بيته ولا يجد ريح زوجته في البيت.. كان يجلس فترات طويلة مع كل منهما .. برغم أنه كان يجدهما مشغولين عنه بذلك الجهاز العجيب "الكمبيوتر" الذي كان يلتهم وقتيهما ويزيدانه إحساساً بالوحدة والفراغ..
كانت ابنته تحمل جينات والدتها الرقيقة الحنونة .. علمته كيف يستخدم الكمبيوتر وكيف يتواصل مع العالم بدلا من ذلك الفراغ والبكاء المتواصل علي رفيقة عمره التى كان قد قسّم نصيبها منه علي الأخريات السفيهات .. ولم يندم إلا في نهايات عمرها..
وكما كانت البنت تحمل جينات أمها .. كان الولد يحمل جينات والده .. فهو الذي اختار خطيبته بعد قصة حب حسده الجميع عليها .. وبالمصادفة ترك الولد حاسوبه مفتوحا ونزل مع الرفاق .. فجلس الأستاذ ذكي ليتجول في عالم النت علي حاسوب ولده .. فوجد إيمله مفتوحا .. فدفعه الفضول ليتطلع علي محادثاته .. فوجد ما أدمى قلبه.. ولده يحادث أخريات ويواعدهن وخطيبته لا تعلم إلا أنه الإنسان الراقي الذي أحبها وأحبته ويحسدهما الجميع علي هذا الحب.. فابتسم بمرارة وقال في نفسه: التاريخ يعيد نفسه.. ولكن لا أريد أن يأكل الندم صدر ولدي كما حدث معي .. ولكن كيف سأنصح ولدي .. وكيف سأخبره أنني تلصصت علي محادثاته..؟؟
وقف عند غرفة ابنته كما كان يفعل مع أمها عندما يريد حنانها ومشورتها.. فوجدها تنهض كأمها وتأخذه من يده وتضمه وتنظر في عينيه تنتظر هطول ما بجعبته..
طفرت دمعتين غصباً.. تدارك نفسه سريعاً واستجمع هيبته .. وعرض الأمر علي ابنته لتساعده في تنبيه ولده ليأخذ خط الاستقامة في أول حياته بدلا من تشتيت روحه بين هذه وتلك .. لكي لا يجنى الندم في النهاية.. وأن ينشد عند خطيبته كل ما يريد .. خاصة أنها تحبه كثيراً ..
نظرت الابنة في عينى والدها .. وتمتمت بصوت خفيض والدموع تملأ عينيها : من شابه أباه فما ظلم .. فكثيرا ما عانت أمي من مثل هذه الأفعال .. ولكن حبها لك كان أكبر من هدم ما بينكما .. فقد كنت صديقتها الوحيدة الشاهدة علي عذابها .
اندهش الأب وقال: كيف كانت تعلم ؟ .. إنها لم تغادر البيت قط.. ولم أحك لها عن شئ .. فكيف عرفتْ؟
قالت الابنة : الأنثى يا أبي تشعر بحبيبها وتلملم مشاعره وتترجمها .. ولكن ليست كل أنثى مثل أمي .. تغفر وتحب كملاك .
انتفض الأب انتفاضة مذبوح وزاد إصراره علي ألا يمر ولده بما مر به هو وما يمر به الآن.