أن ترحل عن نفسك

أن ترحل عن نفسك
*********************
جاهدت نفسى كثيرا ؛ لكننى فشلت , حاولت بقدر ما حاولت أن أجد للنوم عنوانا فى تلك الليلة , و احتلت على الأرق بكل ما أوتيت من وسائل , بل انى أخذت أتجول فى أرجاء السرير بحثا عن بقعة فيها بقايا من نوم .
و بعدما أقتنعت أن لا سبيل الى نوم , تركت السرير , و لجأت الى مكانى المفضل فى منزلى الصغير , هذا الكرسى الهزاز بجوار المدفأة الخشبية , و أخذت أشعل سجائرى الواحدة تلو الأخرى املا أن تأخذ نيران السجائر بعضا من النيران التى فى داخلى .
و أخذت أفتش عن سبب لذلك الأرق , و تلك الحيرة التى انتابتنى فجأة و دونما مقدمات , و أخذت أتسائل عما وراء تلك الدقات القوية المتسارعة من قلبى على باب صدرى , و كأنما عدوا يتربص به من الداخل ليفتك به و يريد القلب ليخرج حالا !!
و بينما أنا غارق فى هذه الحالة , اذا بصوت عقلى ينادى حازما :-

" كن واقعيا , لملم أشلائك و ارحل " !!

انتابنى الفزع و الحزن و الجنون من هول ما سمعت , و لم أكد أصدق حتى فوجئت به يكمل ما بدأه :-

" انسى أن تحلم بها بعد الان , قد غضب عليك النوم من كثر ما استهلكته كى تراها فى المنام , توقف عن وصفها و الكلام عنها , انسى شفتيها , و لون عينيها , انسى عقلها و ذكائها و حكمتها , و انسى اللقاء بينكما , و انسى كلمة " ميرسى " , معلوماتى أكيدة أنها لم و لن تفكر بك ,هى لن تأتى ابدا , و لم تعد تخطر لك على بال , فلا تقتل نفسك , ان الله كان بك رحيما ."

تركنى عقلى بلا عقل أفتش عن معنى لتلك الكلمات , فأنا لا أستطيع أن أصدق أو أستوعب أن كل أحلامى ضاعت سدى و أن كل مخاوفى و شكوكى كانت صحيحة , و لذلك , و قبل أن أجن , أحلت الأمر الى قلبى كى يبت فيه , فوجدته ساكنا و قد أبرته الدموع , و أدمت يداه كثر المناجاة ,
فأخذت أتجول فى داخلى , أعرض حالى على حالى , و لقد ذهلت من عجب ما رأيت , فقد تجمد الدم فى أوردتى و شرايينى و أوعيتى الصغيرة , شلت أعصابى , تاهت أقدامى , سكنت فىّ الأغانى و الأمانى و الأحلام , و أصبحت مهجورا يبكى على بعضى بعضى.
الأن فهمت اذا , و أدركت أن لا مجال للهروب من الحقيقة , و ليس أمامى سوى الرحيل , و لهذا ؛ فقد قررت أن أرحل عن نفسى ,
و ضعت قلبى , و بالى , و فكرى , و دمائى , و أعصابى , و أحلامى , و علبة سجائرى , و دفاتر شعرى , و شهادة ميلادى , و صورة حبيبتى , و الشمس , و القمر , و الليل , و الشتاء , و الأمطار فى صندوق , و زينته بما وجدت عندى من أوراق الزينة , و لا عجب أنها كانت سوداء .
و ضعت الصندوق أمام باب منزلها , و كتبت عليه و صيتى فى صورة و رقة ألصقتها عليه , و كتبت فيها :-

[i]" رجاءا ممن كان حيا , هذا أنا , افتحى الصندوق , و أعيدى تكوينى "[/
i]
**********************
اسلام حسان العربى