لم يعرفه الموت بعد
(1)
استقر بي المقام في حي السيدة زينب .... نجحت أنا وبعض أصدقائي ممن وفدوا معي إلى القاهرة – من أجل اكمال دراستنا في الأزهر – في استئجار شقة في شارع زين العابدين .. كنت سعيداً جداً لوجودي في تلك البقعة العريقة الطاهرة .. لم تكن سعادتي لتاريخ هذه البقعة وشهرتها بل لأني وعلى الرغم من صغر سني وبعد عهدي بالمطرب محمد عبد المطلب إلا أني أعشق صوته الأجش .. ولأني أيضاً سأقطع نفس الرحلة التي تحدث عنها عبد المطلب في إحدي أغنانيه ..
" ساكن في حي السيدة وحبيبي ساكن في حي السيدة .. وحبيبي ساكن في الحسين .. وعشان أنول كل الرضا يوماتي أروحله مرتين ... م السيدة لسيدنا الحسين ... "
إنها ذات الرحلة التي سأقطعها يومياً لأن كليتي تقع خلف الجامع الأزهر .... لم يكن العام الجامعي الجديد قد بدأ بعد حين وصلت إلى لكني أردت أن أرتب أموري جيداً قبل بداية الدراسة ... بعد يومين فقط من وجودي في حي السيدة زينب خرجت بصحبة أحد أصدقائي للبحث عن عمل مناسب يعيننا على معيشتنا .. بعد فترة من البحث وجدنا ضالتنا المنشودة في أحد المخابز الإفرنجية على مسافة أقل من البعيدة من مسكننا .... اختار صديقي أن تكون ورديته من الرابعة عصراً إلى الثانية عشر ليلاً ... أما أنا فقد اخترت أن تكون ورديتي من الثامنة مساءاًَ إلى الرابعة صباحاً .. عاتبني صديقي قائلاً :
- لن تسطيع النوم لا بعد العمل ولا بعد الدراسة
- يكفيني من النوم القليل
كان يومي يسير على وتيرة واحدة .. أنهي عملى في الرابعة صباحاً .. أذهب لصلاة الفجر في مسجد السيدة زينب .. أظل جالساً في المسجد بعد الصلاة أقرأ وردي اليومي من القرآن الكريم .. ثم أطالعه بعضاً من كتبي الدراسية .. مع شروق الشمس أذهب إلى مسكني أستبدل ملابسي وأحمل أغراضي وأبدأ رحلتي إلى الحسين سيراًً على الأقدام .
(2)
ما كان يلفت انتباهي يومياً بعد صلاة الفجر هو ذلك الرجل الذي يجلس مسنداً ظهره إلى أحد أعمدة المسجد يقرأ ورداً يومياً من القرآن استطعت من صوته الذي يأتي إلى على فترات أن أحدد هذا الورد وهو ثلاثة أجزاء ... ثم يطالع بعض الكتب .. أنصرف كالعادة بينما يظل الرجل على حاله ... عندما أحضر لصلاة الفجر أري هذا الرجل يؤدي بعض النوافل .. ظننت حيناً أن هذا الرجل لا يفارق المسجد صباح مساء .
(3)
لم أكن أعرف شيئاً عن هذا الرجل لكنني كنت أشعر أن شيئاً ما يشدني إليه .. جلست إلى جواره وسألته - هل تبيت هنا ؟
- أجاب وقد امتلئ ووجهه ابتساماً لماذا تظن ذلك ؟
- لأني عندما أحضر لصلاة الفجر أجدك موجوداً وعندما أنصرف أراك لا تزال تجلس هنا ...
- هذا الوقت هو أحب الأوقات لدي وأفضل وقت يقضيه العبد مع الله تعالى .... وأنا سعيد جداً أن أرى شاب في مقتبل عمره يفعل ذلك ..
- نشأتي القروية ودراستي الأزهرية أعانوني على ذلك ..
وأخذت اروي له قصة وجودي هنا .. ونشأتي الأولي .. كان الرجل يتابع باهتمام بالغ وسعادة متناية ... من آن لأخر أنقطع عن مواصلة الحديث لكن إيمائته كانت تدفعني لمواصلة الحديث ... انتهيت من حديثي .. حان وقت الرحيل لكني لم أكن أرغب في الانصراف لكن ..... انصرفت كالعادة ... تكررت لقائتنا يوماً بعد يوم واتسعت الدائرة أكثر فأكثر .. زاد عددنا اقتربنا من العشرة ... أشياء كثيرة ألفت بين هذه القلوب .. اجتمعنا على الطاعة .. أصبحنا نتحدث في أشياء كثيرة صرنا كفرد واحد لكن لا زالت علاقتي به تمتاز بمزيد من الخصوصية .. كان البعض يرانا فرداً واحداً أو على الأقل ابن وأبيه .
(4)
على الرغم من عمق علاقتنا إلا أنني اكتشفت أنني لا زلت لا أعرف عنه شيئاً ... ولماذا لم أسأله عن قصته حتى الآن ؟ .. ولماذا لم يخبرني هو أيضاً بها ؟ .. عندما رأيته سألته من أنت ؟ وما هي قصتك ؟
- ألا زلت لا تعرفني
- لا
- لكنني أعرفك حتي من قبل أن تروي لي قصتك بل وأعرف كل شيء عن قريتك ... المسجد الكبير .. الطرق القديمة .....
سألت نفسي قائلاً كيف عرف ذلك ؟ ومن يكون هذا الرجل ؟ غرقت في بحر من الأفكار .. غاب عني صوته لم أنتبه إلى وهو يقول ....
- لسه مش فاكرني ؟ ومش فاكر حكاياتي اللي
كنت بأحكيهلك زمان ..!
ملئتني الدهشة لما سمعت .. مش معقول
جدي عبد الباقي ! ...
- نعم
- لكن كيف ذلك ؟ لقد تركت القرية منذ عشرة أعوام وكان عمرك يقترب من المئة ! أما الآن فتبدو في الستين من عمرك ... أنا لا أصدق ؟
- لماذا لا تصدق ؟
- ليس باستطاعة بشر أن يصدق ذلك .. هل يتقدم بك قطار أم يعود للخلف ؟ وكيف تخسر أكثر من خمسين عاماً من عمرك ؟ وهل عندما يمر بك العمر هل تزداد في الهرم أم تعود إلى الشباب ؟ وكيف أن الموت لم يعرفك بعد ؟
- كل هذه الأسئلة اجابتها بسيطة .. انا لم أبالي يوماً بتقدم العمر ولا بالشيخوخة ولم أستسلم لهم .. فلم يستطيعون هزميتي